الحدائق في المناطق الصحراوية و الحارة

ليست هناك مشكلة لا في نوع المناخ و لا في شح الموارد …بقدر ما هي في تدبير السلوكيات الصحيحة. كما سوف يوضح خلال سطور هذا المقال.

أكثر الحدائق العصرية و المعاصرة غير مستدامة

أضحت العديد من الحدائق و المساحات الخضراء العصرية و المعاصرة أقرب إلى مساحات تلوين و تجارب تنسيقية حيّة منها إلى منظومات بيئية راسخة ومستدامة. فغالبية الحدائق الخاصة اليوم باتت فضاءات اختبار وحوار مستمرّ بين تثبيت العديد من الأنماط الهندسية واستيعاب التكنولوجيا، وبين مطاردة الحلم المطلق والبحث عن جنان على الأرض. هذه الواحات الحديثة تروي حكاية الإنسان مع البيئات القاسية، ورحلته الدائمة نحو صياغة أصالة جديدة في قلب الحداثة. الكثير من الحدائق المعاصرة و العصرية يستنفذ الموارد و يهدر المجهودات بسبب تأثير المنطق التجاري و سوق الصناعات على قرارات و إختيارات المستهلكين.

فإنشاء حديقة غنّاء في مناخٍ جافّ يكون حتماً فعل ترويض للقسوة، وتحويل لندرة الماء إلى برهان على الرفاهية و التمكن التقني. فأنظمة التحلية، والريّ الذكي، ورقابة التبخر، كلها أدوات تصبو إلى صناعة فردوسٍ مُحكَم التفاصيل. غير أنّ هذه الواحات الحديثة لالتي تنبني كثيرا على جماليات موسمية، نادرا ما تخدم الهوية الثقافية أو البيئية للأمكنة.

بإمكاننا اليوم و بعد عقود من العمارة المناظرية المنفتحة و الدخيلة ، أن نصلح الكثير و أن نعيد التوجه نحو حلول أصيلة أعطت نتائجها منذ قديم الأزمنة، ظرفية بظرفية… و أن نعيد الإعتبار للانطواء المعماري و مناهج تصميم الأفنية الظاهر منها و الباطن بوصفها فضاءات حامية ويُسكن، إذ تتجلّى الحدائق الداخلية—على خطى الفناء الأندلسي و«الباريدايزا» الفارسي—كأيقونات للفخامة الهادئة؛ مساحات حميمة يتعانق فيها الظلّ والماء والنسيم، فتولد فعالية مناخية تضبط الحرارة وتحدّ من التبخر وتمنح الخصوصية، فيما يتشكل داخلها مناخٌ محليّ لطيف ينسج جمالاً صامتاً لا يحتاج إلى إعلان، ويعيد للحديقة معناها الأعمق: ملاذاً روحياً يهيّئ للإنسان لحظات تأمل وسكينة وسلام داخلي.

ليس في الجمع بين العمارة الإنطوائية و زراعة النباتات المحلية مجرّد رغبة جمالية، بل هو عودة واعية
إلى فهم الثوابتِ ومكوّناتِ المحيط البيئة، و قوانينِ الطبيعة.

إن تصميم الحدائق و الفضاءات الخارجية وفق منطق يحمي من وطأة الشمس والحرارة، حيث تُزرع أنواع من النباتات الأصيلة المعهودة منذ قرون و بعض مما سوف تحميه هي الأخرى من نباتات واردة نافعة بخاصياتها الجمالية و الطبية و الغذائية، فينشأ جسرٌ رفيع راق يمتدّ بين الماضي والحاضر. ليصبح البيت مولداً ثم امتداداً للذاكرة الجماعية، وتتحوّل التفاصيل المعمارية من أفنية و ممرات مظلّلة و جلسات تحت العرائش، أو في كنف و حماية الأشجار الباسقة و الشجيرات المثمرة، إلى لغة ثقافية إجتماعية جمالية عرفانية بيئية تحفظ الإرث وتمنحه شكلاً معاصراً يضمن له الإستدامة بروح معاصرة.

ثقافياً : لأنه يعيد وصل الماضي بالحاضر.

بيئياًّ : لأنه يحترم المنطق المناخي للمكان.

روحياًّ : لأنه يحيي العلاقة بين الإنسان والطبيعة.

إجتماعياًّ : لأنه يعزّز الروابط داخل العائلة والمجتمع حول إرثٍ مشترك.

يخلق هذا الاندماج بنفسه توازناً بيئياً وروحياً واجتماعياً في آنٍ واحد. فالعمارة المتوافقة مع المناخ تحترم منطق المكان، وتتيح للنباتات المحلية أن تنمو بتوازنٍ يخفّف استهلاك المياه ويعيد للنظام الطبيعي إيقاعه. هنا، تتجدّد الصلة الروحية بين الإنسان والطبيعة، ويصبح الفضاء المحيط منصةً للراحة والتأمل. وعلى المستوى الاجتماعي، يتحوّل هذا النمط من التخطيط إلى نقطة التقاء للأفراد والعائلات، حيث يتشاركون إرثاً معيشاً يعزّز الروابط بينهم ويُشعرهم بالانتماء إلى بيئة واحدة وروح واحدة.

يوفر غرس الأشجار المتوطنة و المحلية على شكل نسيج أخضر متداخل و بكثافة عالية، حصنًا قويًا يسمح بصد الرياح وتيارات الهواء،
مما يسهم في خلق منظومة مناخية مجهريّة داعمة للنباتات والبيئة المحيطة.

يشير التكثيف النباتي3 إلى غرس الأشجار والنباتات بكثافة عالية على مستويات وارتفاعات مختلفة، بدءًا من النباتات التي تتجاوز 7 أو 8 أمتار وصولًا إلى الأشجار القصيرة والمتوسطة. يشكّل هذا التدرج طبقات متداخلة، لتكوّن شبكة محكمة تعمل كحاجز واقٍ ضد الرياح وتيارات الهواء، مما يسهم في خلق منظومة مناخية مجهريّة داعمة للنباتات والبيئة المحيطة.

رغم التحديات المناخية الحادة في دول الخليج و المناطق ذات المناخ الصحراوي، تتشكل ملامح توجه جديد في تصميم الحدائق يعتمد على التصالح مع البيئة الصحراوية و فهمها أكثر بدل مقاومتها. و هكذا توجب تعرف أكثر عن فنون و تقنيات الزراعة الجافة (Xeriscaping) و ترويجها، حيث تعود النباتات المحلية مثل نخيل التمر (Phoenix dactilyfera) وأشجار الغاف (Prosopis cineraria) و السمر (Acacia tortilis) و السدر (Ziziphus spina-christi) و القرط (Cordia gharaf) و الطلح النجدي (Vachellia gerrardii / Acacia gerrardii) ، و الليمون و التين و الرمان و الزيتون مدعومة بجهود مراكز الأبحاث الزراعية و المشاتل المحلية المعتمدة و التي تطوّر أصنافًا أكثر قدرة على تحمل الملوحة والحرارة.

التكافل النباتي هو تلك العلاقة التعاونية أو التبادلية بين نوعين أو أكثر من النباتات،
بحيث يستفيد كل طرف من الآخر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، غالبًا لضمان و لتحسين فرص البقاء والنمو.

التكافل النباتي 4Plant symbiosis هو شكل من أشكال التعاون الطبيعي بين النباتات لتحسين البقاء والإنتاجية دون الإضرار بأي طرف، وهو أساس مهم في الزراعة المستدامة وزراعة الحدائق الطبيعية. فهو إذن تلكاللغة الخفية التي تتحدث بها النباتات فيما بينها، نظام طبيعي من التعاون والتبادل يجعل كل نوع يدعم الآخر بطرق دقيقة وفعّالة.

تبادل المغذيات : تثبت بعض النباتات النيتروجين في التربة، ما يساعد النباتات المجاورة على النمو (مثل البقوليات مع محاصيل أخرى).

الحماية المتبادلة: لما توفر نباتات الظل أو الحماية من الرياح لنباتات أخرى، أو أن تصد بعض الآفات عنها.

تحسين التربة: لما تفرز جذور بعض النباتات مواد بايوكيميائية تحفز نمو ميكروبات مفيدة للتربة و للنباتات الأخرى.

لا تنمو النباتات في الطبيعة بمعزل عن بعضها؛ فالبقوليات تثبت النيتروجين في التربة، فتغني النباتات المجاورة عن الغذاء الذي تحتاجه، بينما توفر الأشجار الظل والحماية من الرياح لبعض النباتات الصغيرة، فتخلق بيئة أكثر اعتدالاً وصموداً. جذور النباتات، بدورها، تفرز مواد عضوية تغذي ميكروبات التربة، وتعيد التوازن للمغذيات، في منظومة حية متكاملة. هذا التكافل لا يقتصر على البقاء فحسب، بل يعكس ذكاء الطبيعة في تحقيق أقصى استفادة من الموارد المحدودة، ليصبح الحقل أو الحديقة أو الغابة لوحة متناغمة من التعاون الحيوي، حيث يزدهر كل كائن بفضل الآخر، في سيمفونية صامتة من الحياة والإبداع البيئي.

يعالج مقال “إعادة قراءة البيئات الصحراوية“، موضوع الأحياء الدقيقة و المجهرية منها
و التي لولاها لا يمكن للتربة أو الأرض أن تعتبر “حيَّة” بيولوجياً.

تشكّل الكتلة الحيوية للتربة ذلك العالم الخفيّ الذي يضم البكتيريا والفطريات والديدان والجذور الحيّة والكائنات الدقيقة الأخرى، والتي تعمل بتنسيق معقد لإعادة تدوير المواد العضوية وتحويلها إلى مغذّيات متاحة للنباتات. كما تعيد هذه الكتلة الحيوية للتربة تماسكها وقدرتها على الاحتفاظ بالماء وتحسين بنية التربة، ما يجعلها نظاماً بيولوجياً متكاملاً يدعم نمو النبات واستدامة الأرض.

تكتسب الكتلة الحيوية في البيئات الحارّة والجافة أهمية أكبر، إذ تعمل كدرع يحافظ على رطوبة التربة ويوازن بين ندرة الموارد واحتياجات النباتات. وبفضل هذه الكتلة الحيّة، تتحوّل التربة من وسط صامت إلى منظومة نابضة بالحياة، تمنح النباتات القدرة على النمو والازدهار، وتضمن استدامة النظام البيئي بشكل عام.

يُستخدم مصطلح “مُلش Mulch” في العربية بعدة صيغ أبرزها : “الغطاء العضوي للتربة” وهو الأدق والأكثر تداولًا علميًا، .

يتكوّن المُلش (Mulch) عادةً من مزيج من المخلفات والمواد العضوية المتاحة في البيئة المحيطة؛ ففي المزارع يُحضَّر من بقايا الحصاد ومخلفات العمليات الزراعية مع مختلف أنواع السماد الحيواني، بينما تعتمد حدائق المنازل على أوراق الأشجار والأغصان والألحاء المهشّمة أو المطحونة ونشارة الخشب، إلى جانب السماد الحيواني ومخلفات المطابخ، في حين تُفضّل الحدائق العامة استخدام خلطات شبه متحلّلة جاهزة. ويؤمّن المُلش طبقة واقية للتربة تحميها من حرارة الشمس، وتحافظ على الآفاق الحيوية والكائنات الدقيقة الحسّاسة، كما يحفظ الرطوبة ويغذّي التربة عبر تحلّله وتكوينه للدبال وتنشيطه للمجتمعات الميكروبية كالفطريات والديدان والبكتيريا، مما يعزّز جودة بنيتها. وإلى جانب دوره في الحدّ من انجراف التربة والحفاظ على عناصرها الغذائية، يساهم المُلش في منع نمو الأعشاب غير المرغوب فيها بفضل حجب الضوء، مما يجعل الحدائق أكثر سهولة في العناية وأعلى استدامة.

الريّ المدمج هو نهج هندسي–بيئي يقوم على جمع الماء والتربة والنبات في منظومة واحدة تعمل بتناغم يشبه نبضًا خفيًا داخل الحديقة. في هذا النظام لا يأتي الماء عنصرًا منفصلًا، بل يتوزّع عبر شبكة ذكية تتكيّف مع خصوبة التربة واحتياجات الجذور ومناخ المكان، معتمدةً تقنيات متنوعة كالريّ بالتنقيط أو الأويّات أو المجسّات الحسية التي تضخ الماء بجرعات دقيقة مباشرة إلى مواضع الحاجة دون هدر أو تبخّر. وهكذا يتحوّل الريّ من إجراء منفصل إلى عملية تكاملية تتفاعل مع بنية التربة وكائناتها الدقيقة وإيقاع النبات ذاته، فتخلق بيئة رطبة متوازنة وتُعزّز النمو وتدعم الاستدامة في البيئات الجافة والحارّة. فتستعيد حتى الصحاري لغة نباتية أصيلة في هذا السياق ، ويغدو اختيار النبات خطوة استراتيجية لتقليل الطلب على الماء قبل التفكير في أي نظام ريّ.

تستعيد الأوياس (Oyas/Ollas) مكانتها كحلّ أصيل يجمع بين البساطة والفعالية ويضمن ترطيبًا عميقًا دون أي هدر. فالأوياس أوانٍ فخارية تقليدية، تُستخدم منذ آلاف السنين للري السلبي للنباتات.  حيث تعود أصولها إلى المناطق الجافة، لا سيما في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، حيث تتيح هذه الأوعية المسامية تسرب الماء ببطء إلى التربة المحيطة، مما يوفر ترطيبًا مستمرًا للجذور. وتقلل هذه الطريقة بشكل كبير من هدر المياه، إذ تُقدَّم الرطوبة مباشرةً إلى المكان الذي تحتاجه فيه النباتات، مما يقلل من التبخر والجريان السطحي. عادةً ما تُدفن الأوياس في التربة بحيث يظهر منها فقط عنقها، مما يتيح ريًا خفيًا وفعالًا، وهو مثالي للحدائق الجافة، والبساتين، وحتى النباتات المزروعة في الأصص.

تستعيد الأوياس (Oyas/Ollas) مكانتها كحلّ أصيل يجمع بين البساطة والفعالية ويضمن ترطيبًا عميقًا دون أي هدر. فالأوياس أوانٍ فخارية تقليدية، تُستخدم منذ آلاف السنين للري السلبي للنباتات. حيث تعود أصولها إلى المناطق الجافة، لا سيما شمال إفريقيا والشرق الأوسط، حيث تتيح هذه الأوعية المسامية تسرب الماء عن طريق الرشح إلى التربة المحيطة، ما يوفر ترطيبًا مستمرًا للجذور. فتُقدَّم الرطوبة مباشرةً إلى المكان الذي تحتاجه فيه النباتات دون هدر للمياه، مما يقلل من التبخر والجريان السطحي. تُدفن الأوياس في التربة فلا يظهر منها سوى العنق، فتوفر ريًا مثاليا خفيًا وفعالًا و بدون إنقطاع.

تعد الأوياس وسيلة ري بيئية ومستدامة؛ فهي مصنوعة من الطين الطبيعي وتدوم طويلاً بأقل قدر من الصيانة. كما تساهم بفاعلية في مواجهة الجفاف وتحسين نمو النباتات من خلال توفير رطوبة منتظمة وتقليل الإجهاد المائي.

تتجسد السلوكيات الصحيحة لتقنيات الهندسة المناظرية و لتنسيق الحدائق و البساتين، في ابتكار مساحات قادرة على التنظيم الذاتي والتناغم مع المناخ والتفاعل مع أجواء الصحراء. حيث يشمل هذا المفهوم مجموعة من الممارسات الذكية والمسؤولة، مثل إعادة تدوير المياه الرمادية، واستغلال مياه تكاثف المكيّفات، والزراعة المكثّفة للكتل الشجرية لخلق مناخات مجهرية عبر الظلال، واعتماد الغطاء العضوي للتربة، مع إمكانية إدارة المنظومة رقميًا عن بُعد. ويسهم إنشاء حواجز نباتية عالية وكثيفة ببناء طبقات تُظلّل المكان وتخفّف الحرارة، فيما يُعزّز استثمار الموارد المتاحة وتوظيف التقنيات الحديثة تكوين حديقة أكثر اعتمادًا على ذاتها وكفاءة في استهلاك المياه. وهكذا تتشكّل بُستانية جديدة واعية ومستدامة، تعيد لحدائق البيئات الصحراوية والجافة معناها الحقيقي: رفاه خفيف الحضور ومنسجم بعمق مع الطبيعة.


  • شبكة الجذور الدقيقة والشعيرات الصغيرة التي تنمو من الجذر الرئيسي لتمتص الماء والمواد الغذائية من التربة.

يُشكل الدبال المادة العضوية المتحللة الموجودة في التربة، والتي تنتج عن تحلل بقايا النباتات والحيوانات بواسطة الكائنات الدقيقة (مثل البكتيريا والفطريات والديدان).

بمعنى زراعة النباتات بشكل متقارب ومدروس لزيادة كثافة الغطاء النباتي. يساعد ذلك على تحسين الإنتاج وتقليل الأعشاب وتحسين شكل الحديقة. كما يساهم في حماية التربة، حفظ الرطوبة، وخلق بيئة خضراء أكثر جاذبية.

التكافل النباتي هو تعاون متبادل بين نوعين من النباتات أو بين النباتات وكائنات أخرى، بحيث يستفيد كل طرف من الآخر. يساعد هذا التعاون في النمو، والحماية، وتحسين الحصول على الغذاء.


1168 784 إدريس السعداني

إدريس السعداني

النسيج البيئي و المحيط اليومي الحاضر، يحددان مسارات الغد !

المقالات بقلم : إدريس السعداني

Leave a Reply