ما الذي يمنع الجمالية أن تتناغم مع الإنتاجية ؟ و ما الذي قد يمنع الحدائق و البساتين الخاصة أن توفر أنواعاً من المحاصيل الزراعية ؟
الحدائق و المساحات الخارجية الخاصة أماكن للاسترخاء والترفيه، و فضاءات حيوية توفر جودة الحياة و التوازن الشخصي، والتنشئة الاجتماعية في إطار طبيعي وجميل…كيفما كانت الظرفيات المناخية و السياقات الجغرافية التي قد توجد بها.

يمكن دمج الإنتاجية مع كل أشكال التصاميم المناظرية و وسط جل الظروف المناخية و الجغرافية..
تفرض أكثر التصاميم العصرية للحدائق جمالا شكليا يتغاضى عن نُبل الغايات و الوظيفيات الحقيقية للأماكن و الفضاءات. فهذه الحدائق تُصمَّم من أجل إرضاء البصر أكثر من الروح و باقي الحواس…و ليس كذلك من أهداف و أولويات هذه التصاميم أن توافق المحيط و البيئة و لا حتى أن تخدم الأرض. فتُقصى عنها منافع العديد من الأنواع النباتية المحلية، و تأوي نباتات دخيلة لا تنتمي إلى النسيج البيئي المحيط، ولا تنسجم مع هويته و روحه، رغبة في التقليل من أعباء الصيانة، و السعي إلى جعل الحديقة امتدادًا هامشيا للهندسة المعمارية، و ليس كإمتداد ديناميكي شمولي يوفق بين الكتل المبنية و الكتلة البيئية الطبيعية بكل معاني التوازن.
الجمال المصقول للتصميم العصري المتاثر بعولمة المعايير، له بثمن باهظ، إذ تُفْقِد الحديقة دورها الحيوي كمساحة منتجة و مستدامة، تحتضن الحياة وتغذّيها و تهذب أساسيس و مشاعر الإنسان، فتغدو رغم بهائها الظاهر، فقيرة في عطائها، عقيمة عاجزة عن توفير أساسيات عيش عشرات من أصناف الكائنات المتوطنة التي كانت قد تجد في الحدائق ملاذًا لها.

لماذا تستخدم الزهور الموسمية بينما يمكن ان تأخذ مكانها نباتات مُعمرة مزهرة و عطرية عديدة الإستخدامات، تشمل الأوراق و الزهور و الأغصان ؟
وما يزيد الطين بلّة، هو أن النباتات الدخيلة والوافدة التي ترد في سياق التصاميم المناظرية بدافع الموضة و التقليد يساعدها وجودها القسري في أسواق نباتات الزينة، تتحوّل في كثير من الأحيان إلى أوكار لأمراض و أوبئة نباتية غريبة عن الأنظمة البيئية المحلية، وموئل لحيوانات غير متوطّنة، ما تلبث كل هذه أن تعبث بذلك التوازن الدقيق القائم و الذي كثيرا ما يكون هشاً، فتُسرع بانهياره فصلا بعد فصل و سنة بعد سنة…
و هكذا فإدخال الأنواع النباتية غير المحلية إلى بيئات جديدة يحمل في طياته مخاطر جسيمة،لم تكن معروفة من قبل، ما يهيئ بيئة خصبة لتكاثر كل ما هو دخيل من حشرات وحيوانات تفتقر إلى المفترسات الطبيعية، فتتضاعف أعدادها وتتحول إلى آفات مدمرة تهدد توازن المحيط.
وهكذا، فإن زراعة النباتات الغريبة بدافع جمالي أو تجاري قد تبدو خطوة بسيطة في ظاهرها، لكنها تحمل بذور اضطراب بيئي عميق، لا تظهر آثاره إلا تدريجيًا، لتمتد إلى منظومات بيئية أوسع بكثير مما يُتصوَّر، محدثة خلالًا قد يستحيل تداركها…

الحدائق المعاصرة : جمال لا “طعم” له ؟
تكمن إشكالية أنماط الحدائق العصرية في غَلَبة الشكل على المضمون، فهي تعتمد على حلول “اجتياحية” أو “تدخلية” (Invasive Solutions) أي ما هو نقيض الحلول اللينة والمستدامة (Soft and Sustainable Solutions).
غالبا ما تفتقر أنماط الحدائق العصرية إلى حلول مستدامة و مسؤولة بيئياً… وتهمش الحلول الزراعية و الإنتاجية المدمجة مع السياق الجمالي و الترفيهي، التي تستوعب الديناميكيات التكاملية وتستند إلى علوم الأرض والأحياء، بهدف الإستفادة القصوى من هذه الفضاءات الخارجية.

لم تلد الطبيعة جمالا غير نافع…إنما يكون الجمال جزءاً من منظومات متشابكة متكاملة وديناميكات جد معقدة، لا نلمس منها إلا اليسير …
من المهم جدًا أن تكتمل منظومات “العمران الأخضر” مع المنطق النفعي والإنتاجي، و ذلك بفضل تصاميم شمولية، توفر أنظمة بيئية متأقلمة و متكيفة مع أي سياقات مناخية و جغرافية كانت : جفاف و رياح موسمية و تيارات هوائية قاسية و فقر تربة و تصحر و شح في الموارد.
إن تطبيق تقنيات البستنة و الحراجة الزراعية و الهندسة الزراعية البيئية Agroecology و علوم التربة Pedology، تبحث على زيادة الكتل الخضراء، و على إحداث تكامل و تفاعل تنافعي متبادل بين الأنواع المختلفة الملائمة لكل سياق والتي تكون قد أختيرت بكل عناية، سعيا إلى إنشاء أنظمة بيئية مصغرة مستدامة و شبه مكتفية ذاتيًا، على شاكلة مزارع مصغرة.
و تبقى الحديقة منظومة شمولية تجمع بين الجمالية و النفعية الإنتاجية.