لقد استمدت حدائق الأندلس جمالها وهيكلتها من حضارات شرقية و متوسطية متنوع، و لم تكن هذه الحدائق مجرد فضاءات للزينة، بل مراكز للأنشطة الاجتماعية والاقتصادية والزراعية، تعكس مكانة أصحابها ومرتبطة بحقوق الملكية والمياه.
نهلت حدائق الأندلس من معين التقاليد المتوسطية العريقة، فاستلهمت من النماذج الرومانية والبيزنطية والفارسية و الهندية و المصرية القديمة على السواء. ففي الحقبة الرومانية، كان يتمحور المسكن حول الفناء (الأتريوم Atrium ) ثم البريستيل Peristylos، الذي تحيط به النباتات وتزينه النوافير والأحواض. ومع تأثير المناخ الحار وتوافر المياه في شبه الجزيرة الإيبيرية، تطورت هذه البنية لتُفضي إلى ابتكار الفناء الداخلي ( الباتيو Patio )، وهو فضاء مركزي مغلق ومحصن، إعتمدت عليه الحدائق الأندلسية في فلسفتها و في نهجها المعماري، تُجسد به معاني الخصوصية و الترف و الرقي التخطيط والعمران.

الهندسة المائية وفنون تدبير الماء
تتبوأ المياه في حدائق الأندلس مكانة محورية، ليس فقط في البناء الجمالي، بل في الدلالة و الرمزية. فالهندسة المائية بلغت درجة عالية من التعقيد والدقة، إذ كانت المياه تُجلب عبر الأقنية المائية (كالذي في مدينة الزهراء)، وتُخزن في خزانات علوية، ثم تُوزع عبر قنوات حجرية أو أنابيب فخارية ورصاصية، في انسجام تام مع تضاريس الأرض. يبدأ السيل من النقطة الأعلى، حيث المصدر أو الخزان، وينساب عبر المدرجات نحو مختلف أرجاء الحديقة، مرورًا بأحواض رئيسية ونوافير جانبية وسواقٍ صغيرة، تؤمن الري وتلطيف الجو في آن. وقد أتاح هذا النظام المائي البديع تحكمًا دقيقًا في تدبير الماء، وهو أمر جوهري في بيئة متوسطية الطابع.

التنظيم الفراغي والهندسة الهندسية
تميّزت الحدائق الأندلسية بتنظيم هندسي صارم، في الغالب وفق تخطيط صليبي مستلهم من الحدائق الساسانية الفارسية، وهو تخطيط يسمح بتوزيع الماء وتنسيق الفراغ إلى مساحات متكافئة. يحتل الفناء المركزي قلب الحديقة، وعادة ما يُكسى بالرخام الأبيض، وتُغذيه قناة مائية محورية، تحيط بها الأشجار والأزهار بترتيب متماثل. تحيط بالحديقة جدران عالية، تُخترق أحيانًا بممرات مقببة وأبواب متقنة، تحافظ على خصوصية المكان وأمنه. أما الحدائق الأميرية، كحدائق قصر الحمراء و جنة العريف، فقد استفادت من تضاريس الجبال، فأُنشئت على مدرجات متتابعة، تفصل بين فضاءات الراحة والزراعة، في تناغم مع طبيعة المكان.

المواد والعناصر الزخرفية
تشهد المواد المستعملة في عمارة الحدائق على ترف الذوق وتنوع التأثيرات الحضارية. فقد استُخدم الرخام في تبليط الأفنية، والجبس المزخرف والمذهب في تزيين الجدران والأحواض، ووضعت التماثيل الرومانية والبيزنطية، والتماثيل البرونزية والحجرية للحيوانات، بل وحتى السُّرُج والأحواض المنحوتة من توابيت قديمة. أما النوافير، مثل تلك المزينة بأشكال الأسود المستلهمة من هيكل سليمان، فكانت جزءًا من مسرح السلطة والتأنق، تُمثل قوة الحاكم ورهافة حسه في آن.

التنوع النباتي واختيار الأنواع
زُرعت حدائق الأندلس بتشكيلة غنية من النباتات، انتُخبت بعناية لجمالها، ورائحتها، أو فائدتها. فتجد فيها أشجار الفاكهة كالبرتقال والتين والكروم، وأشجار الظل كالدلب والموالح التي تقي من رياح الشمال، فضلًا عن أسيجة البَقس، ودوحات الآس والختمية حول الجناح المركزي. وغالبًا ما تُزرع هذه النباتات في صفوف طولية أو مساحات هندسية محددة، مع مراعاة اللون والعطر ومواسم الإزهار. وقد اختيرت الأنواع بعناية فائقة، إما لقدرتها على التكيف مع المناخ، أو لقيمتها الجمالية أو الإنتاجية. ….و لما كانت حدائق الملوك و الأمراء و الأعيان تجرب استقدام النباتات الشرقية النادرة، كانت الحدائق و البساتين الشعبية متوجهة نحو إنتاج المزروعات المحلية و التي تضمن الغذاء.
الأدوار الاجتماعية والاقتصادية والقانونية
لم تكن حدائق الأندلس مجرد فضاءات جمالية، بل كانت مسارح للأنشطة الاجتماعية والاقتصادية والقانونية. فهي أماكن للهو واللقاء والاحتفالات، بنفس أهمية الغرض الزراعي منها حيث توفر كل ما يمكن من أزهار وفواكه وخضروات، حسب المواسم و الظروف المناخية. فقد كانت تعكس هذه الحدائق المكانات الإجتماعية لأصحابها، سواء كانت من أرستقراطية الحكم، أو من أرستقراطيات الحواضر، أو من إقطاعيي الأرياف، وحتى الحدائق-البساتين الشعبية الصغيرة التي لا تخضع للضرائب….
…..و على ذكر هذه النقطة فقد كان يربط التشريع العقاري -العربي-الهسباني (Arabo-Hispanic)، بين ملكية الحديقة وحق السكنى والانتفاع بالماء، بل حتى أنه لم تُقيّد بعض الحدائق التي خُصصت للاستهلاك الذاتي في سجلات الضرائب.
التكامل المعماري والمنظري
تُعدّ الحدائق الأندلسية خلاصة بديعة للتكامل بين الجمال والفن والتقنية. فقد جمعت بين تراث الشرق القديم و حرفية المغربية الأندلسية، وطوّعت نظم الري لتخدم التضاريس المحلية، وابتدعت نماذج متقدمة من البستنة والزراعة، سبقت بها و بزمن طويل حدائق النهضة الأوروبية. فيشهد تنسيقها المكاني، وتدبيرها المائي، وغناها النباتي، على ذروة ما بلغته الحضارة الإسلامية في فن عمارة المناظر، حتى غدت الأندلس نموذجًا خالدًا في تاريخ الحدائق و في فنون الهندسة المناظرية.