لم يخطر ببالي لما وردني آنذاك… اتصال من جهة رسمية تدعوني للمشاركة بمقترح لفضاء عام بمراكش، و لم يدر بخلدي أن ما كان سيحدث سوف يكون تمهيدا لمرحلة محورية ومؤسسة في مساري المهني…و هلم جرى….حيث حظيت بفرصة تعييني من أجل تصميم والإشراف على إنجاز المنتزه المنظري لبساتين الزيتون بباب الجديد، وكذلك للمحور الرئيسي للشريان الكبير في مراكش : شارع محمد السادس.

الموقع و الماهية
من 1930 إلى 2005
يغطي منتزه باب الجديد، المعروف أيضًا باسم “غابة الشباب“، مساحة إجمالية تبلغ 180 هكتار… و هو يقع شرق الحي الشتوي الحالي ”Quartier de l’Hivernage“،ممتدًا من أسوار باب الجديد التي منحت المنتزه اسمه، وصولًا إلى حيث تنتشر بساتين المنارة الشهيرة.

منتزه باب الجديد
تحفة معمارية مناظرية من وحي التراث
إستقيت تصميم منتزه باب الجديد من ينابيع التراث الهندسي الإسلامي العالمي، في تفاعل حيٍّ وعميق مع الإرث الثقافي المغربي العريق. سعيتُ خلال تلك المرحلة إلى إنجاز مشروع مناظري فريد، لا سابقة له بين مدن المغرب، لا سيّما وأن الأرضية التي أُنجز عليها كانت غنية بالمعاني والرمزيات. وفي ظل هيمنة التصاميم الغربية على الفضاءات المناظرية المغربية خلال القرن العشرين، شعرتُ بالحاجة إلى استلهام رموز العمارة الإسلامية والأندلسية المغربية وقواعدها، بما تحمله من تاريخ حواري عميق و عريق….. طالما غاب عن وعي الكثير من المهندسين الغربيين. وهكذا انطلقتُ في مهمة استثنائية ورحلة فكرية و روحية امتدت لأكثر من خمس سنوات، حاولتُ خلالها أن أوفّق بين الرموز والجمالية والحلول الوظيفية والفنية.
أُنشئ هذا المنتزه المناظري الفريد بمدينة مراكش بأمر من صاحب الجلالة الملك محمد السادس في خريف عام 2001، في الموقع الذي كان يُعرف آنذاك بغابة الشباب. ويُعد هذا المشروع مبتكرًا وغير مسبوق، ليس فقط من حيث حجمه وموقعه، بل من حيث أبعاده الموضوعية ومكوناته المفاهيمية، إذ رُسِمَ له أن يكون أكبر حديقة مناظرية تراثية علمية في المغرب، تحمل بصمة معمارية مستوحاة من التراث المغربي والعمارة الإسلامية، في تناغم مع خصوصية المدينة ومكانتها التاريخية والبيئية.
نبذة تاريخية عن الموقع
يعود تاريخ موقع منتزه باب الجديد إلى زمن بعيد، حيث كان عبارة عن أراض زراعية تسقى من “الخطارات” التي توصل مياه الأطلس إلى مراكش.
- في عام 1930، خصص هذا الفضاء خارج أسوار المدينة الحمراء كمتنفس طبيعي وفضاء ترفيهي لساكنة مراكش من الأجانب القاطنين بالشطر الأوروبي من المدينة .
- في عام 1956، قاد جلالة الملك الراحل الحسن الثاني، وهو ولي العهد آنذاك، حملة واسعة بمشاركة مئات من الشباب لزراعة عشرات الآلاف من أشجار الزيتون في قلب ما سوف يعرف اليوم بمنتزه جنان باب الجديد.

المغفور له الملك الحسن الثاني و هو آنذاك ولي للعهد، بصحبة والده المغفور له محمد الخامس، أثناء تفقدهما سنة 1957 لأشغال شق طريق الوحدة، واحدة من أكبر أوراش الشباب لفترة ما بعد الإستقلال. كانت عملية تشجير “غابة الشباب” بشتلات أشجار الزيتون، كان واحدة من هذه الأوراش الوطنية التي شارك فيها المغفور له الملك الحسن الثاني ميدانياً.
حقائق غريبة
يتخلل تاريخ مُنتزه جنان باب جديد (غابة الشباب) بقصص و حقائق غريبة، فقد كانت قد أشارت بعض الجهات إلى أن موقع هذا المنتزه بالقرب من مدرجات مطار مراكش المنارة، كان يجعله موقعًا معيناً للطوارئ … في حالة وقوع حادث جوي….

“خْطَّارات” من عهد الموحدين

يقع مُنتزه جنان باب جديد، فوق أرضٍ تخفي سرًا مائيًا مثيرًا، إذ تنتظم تحتها خطوط من الآبار المتراصة التي تطل على مسارات “الخْطَّارات” القديمة، وهي قنوات مائية جوفية تعود إلى قرون مضت، شكّلت نظام ريّ تقليدي موروث من الشرق، استُخدم لنقل المياه من منابعها في أعالي جبال الأطلس إلى السهول القاحلة.
كانت أراضي منتزه جنان باب الجديد في الماضي حقولًا زراعية تُروى عبر شبكة معقدة من الفجاج والخطارات المحفورة يدويًا، امتدت تحت الأرض لعشرات الكيلومترات. من أبرزها: خطارة الكتبية، وخطارة المنارة، وخطارة سيدي يوسف بن علي، وخطارة العروسيين، التي غذّت المساجد والبساتين والواحات المحيطة.
تجسّد هذه الشبكة تراثًا هندسيًا فريدًا، يُبرز عبقرية التكيّف مع البيئة الجافة وحسن تدبير الماء في خدمة حضارة خضراء مستدامة.
- اُدخِلَ نظام الخطَّارات (أو الفقارات كما تُعرف في بعض المناطق) إلى شمال إفريقيا قادماً من الشرق البعيد، وقد انتقل إلى المغرب عبر الصحراء وبلاد المغرب الأوسط في فترات مبكرة.
- لكن في عهد الموحدين (1121–1269م)، وخصوصاً في عهد الخليفة عبد المؤمن بن علي ومن بعده يعقوب المنصور، حدثت نهضة عمرانية وهندسية كبرى، وشملت تطوير نظم الري والخزانات والخطارات، خاصة في مراكش وفاس وتافيلالت.
- تشير دراسات هندسية ومصادر تاريخية إلى أن خطارة الكتبية وخطارة المنارة تعودان إلى القرن 12م، ما يطابق فترة حكم الموحّدين. كذلك فإن المدينة الموحّدية “تمغروت” جنوب وادي درعة تُعرف باستخدام واسع للخطارات، ما يدل على رسوخ التقنية في هذه الفترة.
عهد الحماية الفرنسية (1912-1956)
يُعد منتزه جنان باب الجديد اليوم متنفسًا طبيعيًا وفضاءً ترفيهيًا استثنائيًا لسكان مراكش، خاصة في إطار تقاليد “النْزَاهَة” الشعبية العريقة. غير أن أصل هذا الفضاء يعود إلى سنة 1930، حين خصصت الإدارة الاستعمارية الأراضي لتلبية حاجيات الترفيه للمقيمين الأوروبيين، خصوصًا الفرنسيين، ضمن رؤية عمرانية مستوردة ترى في المساحات الخضراء رموزًا حضارية وأدوات للهيمنة الرمزية.
فقد تم تصميم المنتزه كمنطقة عازلة بين المدينة العتيقة والتوسع العمراني الحديث الذي تمثله منطقة كيليز، حيث شكّلت المتنزهات أداة لفصل وظيفي وثقافي بين العالمين المغربي التقليدي والأوروبي الاستعماري. ورغم بقاء بعض البنى التقليدية كـالخطارات، فإن الوظيفة الزراعية الأصلية للأرض تراجعت، لتُستبدل برؤية زخرفية تجميلية تتماشى مع مفهوم “الحديقة التزيينية” وفق المعايير الاستعمارية.
عهد الملك الراحل الحسن الثاني (1961-1999)
في عام 1956، قاد جلالة الملك الراحل الحسن الثاني، وهو ولي للعهد آنذاك، حملة أوراش وطنية واسعة بمشاركة مئات الشباب عبر المغرب، من جملتها زراعة عشرات الآلاف من أشجار الزيتون في الموقع الذي أُطلق عليه حينها اسم “غابة الشباب“، و الذي سيُعرف لاحقًا بمنتزه باب الجديد.
عهد الملك محمد السادس (1999-الآن)
في عام 2001، أمر صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، بإنشاء منتزه جِنان باب الجديد.

ماهية مُنتزه جِنَان باب الجديد
يشكّل منتزه جنان باب الجديد – “غابة الشباب“ ،أكثر من مجرد فضاء طبيعي؛ فهو رمزٌ معاصر لوطنية الشباب المغربي، وامتدادٌ حيّ لذاكرة المدينة، ورافعةٌ حيوية لمستقبلها. يجمع بين الجمال، والتاريخ، والبيئة، ويخفي بين بساتينه أسرارًا شاهدة على تحولات مراكش وأحلام أهاليها.
تم تصميم منتزه جنان باب الجديد برؤية شمولية متكاملة، تُوازن بين الجمالية والهندسة والأبعاد المجتمعية والبيئية والاقتصادية، ليكون مرجعًا ثقافيًا مناظريًا في المغرب، في زمن لا تزال فيه الهندسة المناظرية تسعى لاستعادة عمق رسالتها في بناء مدن أكثر توازنًا واستدامة.
ويعيد هذا المشروع الاعتبار لفن الحدائق كفن جامع نابض بالمعاني، مستندًا إلى الرؤية الأكاديمية للحدائق الإسلامية، ولا سيما نموذج “شار باغ”، الذي شكّل الهوية الجمالية والفكرية للحدائق الإسلامية عبر التاريخ.
ويهدف المنتزه إلى إحياء روح العمارة المورية الأندلسية، برمزيتها التاريخية وجمالياتها الغنية، مع تكييف مرن لمتطلبات التحوّل الحضري المعاصر في مراكش، من أجل تعزيز العلاقة بين الإنسان والبيئة، واستعادة أصالة الصلة بين المدينة وطبيعتها…فهو مشروع يتجاوز المفهوم التقليدي و المتداول للحدائق و المساحات الخضراء، ويطرح نفسه كرافعة تنموية متعددة الأبعاد، واعدة بآفاق رحبة لمستقبل حضري مستدام، تعتمد على عدة محاور جوهرية و هي:
- الارتقاء بجودة الحياة المجتمعية
- تحفيز الاقتصاد المحلي، الصغير منه والكبير
- خلق فرص شغل مستدامة لفائدة الشباب
- تعزيز الجاذبية السياحية لمراكش
- فتح آفاق جديدة للرياضة والترفيه
- احتضان الأنشطة الثقافية والمهرجانات والفنون
- توفير فضاءات للعلم والتعلّم والاستكشاف
يتبع …..
تفاصيل هندسية و فنية إضافية حول هذا المشروع النموذجي، مُتوفرة ضمن مقالة :
“التصميم المناظري لمنتزه جنان باب الجديد بمراكش”

في نفس السياق :
التصميم المناظري لمنتزه جنان باب الجديد بمراكش

المراجع العلمية و الأدبية
« Marrakech : patrimoine en péril »
مراكش : تراث في خطر – ما مستقبل التراث الحضري والريفي لمراكش؟
لدعم التفكير حول هذا التساؤل، يلفت الكاتب الانتباه إلى الثروة التراثية الهائلة التي تمثلها المدينة، وكذلك إلى محيطها الزراعي، أي منطقة الحوز وسلسلة جبال الأطلس الكبير التي تشرف عليها. كما يشكك في نمط التخطيط المجالي المركزي والتقنوقراطي.
الأستاذ الدكتور محمد الفايز

« Les Jardins de Marrakech »
حدائق مراكش
“تعود حدائق مراكش التاريخية إلى مطلع العصر الموحدي (القرن الثاني عشر)، وهي بذلك تُعد من أقدم الحدائق في العالم العربي الإسلامي، إذ أُسِّسَت قبل قُرون من بناء قصر الحمراء في غرناطة و و تاج محل في الهند. وتشكل هذه الحدائق إرثًا ثقافيًا وبيئيًا لا يُقدَّر بثمن.”
الأستاذ الدكتور محمد الفايز – الأستاذ الدكتور رشيد بنداوود

« Les Maîtres de l’Eau »
أساتذة الماء
” تاريخ الهندسة المائية العربية، عرض مُوجز عن ترويض الماء في الحضارة العربية الإسلامية يُبرز مساهمة المهندسين العرب في الحضارة المتوسّطية. ويسعى المؤلِّف إلى الإسهام في حفظ التراث المائي من خلال إنشاء متحفٍ للماء، بتمويلٍ من عائدات بيع هذا المؤلَّف.”
الأستاذ الدكتور محمد الفايز – الأستاذ الدكتور رشيد بنداوود

“الخطارة: كنز الماضي والحاضر في منطقة الحوز”
“الخطارة: كنز الماضي والحاضر في منطقة الحوز”
مؤسسة الأطلس الكبير – High Atlas Foundation
