ما هو متوسط المساحات الخضراء المخصص للفرد الواحد في التجمعات الحضرية، كيف تُعالَجُ هذه الإشكالية المعاصرة؟
أضحت المساحات الخضراء ركيزة أساسية، ورمزًا جليًّا لضمان جودة الحياة في المدن الحديثة. فهي لا تقتصر على كونها متنفسًا بيئيًا وصحيًا يربط الإنسان بجذور الطبيعة و تذكره بروحها، بل تتعدى ذلك لتكون درعًا واقيًا يحد من أنواع التلوث، يُنعش المناخ المحلي ويُعزز أواصر الترابط الاجتماعي بين السكان. غير أن توفير حصة كافية من هذه المساحات لكل فرد بات يشكل تحديًا كبيرًا في المدن الكبرى، لا سيما في المناطق الجافة التي تعاني من ندرة الموارد المائية وقلة الغطاء النباتي الطبيعي.
الحد الأدنى الضروري طبقاً للمعايير العالمية
توصي منظمة الصحة العالمية بضرورة توفير ما لا يقل عن 9 م² من المساحات الخضراء للفرد الواحد، فيما تشير تقارير الأمم المتحدة إلى ضرورة الوصول إلى 12 م² كحد أدنى لضمان توازن بيئي ونفسي داخل البيئة الحضرية. لكن حقيقة الأشياء تظهر أن هذه النسبة شبه منعدمة في العديد من المدن الكبرى و التكثلات العمرانية العملاقة، مثل نيويورك، طوكيو، لندن، القاهرة، هنغ كونج … ما يعتبر معياراً واضحاً لرداءة جودة الحياة بهذه الحواضر.

سانتياغو (الشيلي) : مثال صارخ للتفاوت الحضري
تتجلى إشكالية المساحات الخضراء قلب المدن الكبرى في جانبين متلازمين إثنين: إذ يتعلق الجانب الأول بتوفير كمية كافية من هذه المساحات لكل فرد، أما الجانب الثاني فيخص التوزيع العادل والفعّال لها بين أحياء المدينة. فوجود مساحات خضراء معينة هنا وهناك، لا يضمن بالضرورة توفير حق استفادة متساوية منها لجميع السكان، إذ أن هذه المساحات قد تقل من عددها او من حجمها أو حتى انها قد تكون منعدمة في العديد من الأحياء، بينما قد توفر بسخاوة في أحياء أخرى.
تُعدّ سانتياغو نموذجًا بارزًا لهذا التفاوت المكاني والاجتماعي، حيث تتمتع الأحياء الغنية بمساحات خضراء واسعة تعزز جودة حياة سكانها، بينما تعاني الأحياء الفقيرة من نقص حاد أو غياب شبه كامل لهذه المساحات، مما يؤثر سلبًا على صحة الجسدية و النفسية ورفاهية سكانها. هذا التفاوت لا يعكس فقط اختلافات بيئية، بل يكشف عن فجوات اجتماعية ومجالية عميقة تزيد من حدة التهميش.
يعتبر هذا التفاوت في التوزيع خللا في التخطيط الحضري الذي يعطي الأفضلية للأحياء الثرية و يهمش الفقيرة منها، ما يؤدي إلى تفاقم الفوارق الاجتماعية والمجالية. لذلك، تبرز الحاجة الملحة لإعادة النظر في سياسات التخطيط الحضري، لتكون أكثر عدالة وشمولية، تضمن توزيعًا إستراتيجيا متوازنًا للمساحات الخضراء، وتعزز بيئة صحية ومتساوية لجميع سكان المدينة، بغض النظر عن خلفياتهم الاجتماعية أو الاقتصادية.

التحديات الرئيسية في المدن الكبرى
تواجه المدن الكبرى تحديات متزايدة في تطوير المساحات الخضراء نتيجة الضغط السكاني والنمو العمراني المتسارع، مما يؤدي إلى تقلص الفضاءات الطبيعية داخل النسيج الحضري. وتتفاقم هذه التحديات بضعف التمويل وغياب الحوكمة الفعالة، إلى جانب انعكاسات التغير المناخي وظاهرة الجزر الحرارية، التي تجعل المدن أكثر عرضة للارتفاع الحراري وانخفاض جودة الحياة.
وفي البيئات القاحلة، تتضاعف هذه الصعوبات بسبب ندرة المياه، ما يجعل إنشاء المساحات الخضراء معضلة تقنية وبيئية معقدة. ورغم هذه المعيقات، أظهرت تجارب عديدة أن الحلول المبتكرة يمكن أن تصنع فرقًا ملموسًا، وذلك عبر استخدام نباتات محلية مقاومة للجفاف، وتبني تقنيات ري ذكية، وتشجير الأسطح والواجهات بما يسهم في التبريد البيئي وتعزيز الغطاء النباتي.
ولتجاوز هذه التحديات، تبرز أهمية إنشاء حدائق مجتمعية، وتطوير ممرات خضراء تشجع التنقل النشط، إلى جانب إطلاق برامج تعليمية بيئية موجهة للمجتمع، وتحفيز الاستثمار في البنية الخضراء من خلال شراكات استراتيجية. إن مستقبل المدن الجافة لا يرتبط فقط بالموارد، بل بالإرادة والابتكار والقدرة على استدامة العلاقة بين الإنسان والبيئة.

أمثلة واعدة من الواقع
أطلقت مدينة القاهرة مبادرات عديدة لتخضير أسطح المباني واستخدام النباتات المقاومة للحر. وفي مكسيكو سيتي، تم إنشاء ممرات خضراء حضرية تربط بين الأحياء وتوفر مساحات تنزه، رغم المناخ القاسي. كما طوّرت منظمة الأغذية والزراعة (FAO) برامج للواحات الحضرية الخضراء، تُستخدم فيها تكنولوجيا منخفضة التكلفة وتراعي الموارد المحدودة.
نحو مدن خضراء عادلة
إن تحقيق عدالة بيئية في توزيع المساحات الخضراء لا يعتبر رفاهية، بل هو ضرورة حضرية وصحية عليها أن تحتل هذه أولوية قصوى في السياسات الحضرية، خاصة في المدن الكبرى والمناطق القاحلة.
و هكذا، فإن التخطيط المتكامل، المدعوم بالابتكار والمشاركة المجتمعية، يمكن أن يُحوّل المدن إلى فضاءات أكثر خضرة، صحة، واستدامة، بغض النظر عن مناخها أو كثافتها السكانية.