صُمِّمَت الحدائق المغربية الأصيلة مستوحية من ذلك الإلهام الذي أدى إلى صياغة الحدائق الإسلامية كما نعرفها أو كما سمعنا عنها، إذ هي قبل كل شيء تجسم للتصور العرفاني و ترجمة ميدانية لتعابير فنية و ثقافية متوارثة على مر الحقب و العصور، لِمَا قد يحاكي ولو من بعيد، ذلك الفردوس الموعود، بحدائقه الغناء و أصوات الطيور و تغاريد العصافير التي تنسجم مع إنسياب ساعات النهار، مرفرفة تارة على جوانب الأفنية و تارة أخرى حول الأحواض و النوافير المتراقصة على نغمات أشعة الشمس.
المقدمة و البداية
ليس هناك أدنى شك في أن الحديقة المغربية هي الوريثة الشرعية لفنون الهندسة و الجمالية المناظرية و الزراعة الواردة من المشرق و من الأندلس على مر العصور و الحقب… فالقراءة الميدانية لا تبخل بالبوح بالعديد من أسرار الأقوام الذين تداولوا مهارات متنوعة أهدت تلك التحف الهندسية و المناظرية.
يعود تاريخ الحدائق المغربية على النمط الإسلامي، إلى نشأت أول دولة مغربية حيث كانت الحدائق محورا أساسيا للهندسة الإنطوائية المستوحاة من الفنون و العلوم الأموية و عنصرًا أساسيًا في الحياة اليومية والثقافة المجتمعية .
إن المنهج الزراعي المتبع في الحدائق المغربية هو في سياق فلسفة الحدائق الإسلامية التي تنبني أولا بأول على الوظيفية و الإفادة المستدامة، ثمَ تلبس اللوحة رداءها الغني بالتشكيلات و الرموز و المعاني، ليكون تناسق كل مكونات هذه السمفونية الرائعة ما أثار التعجب و فك ألسنة الإنبهار بما توارث من القصائد و الأشعار … عبر الأزمنة.
النباتات المستعملة
دور النباتات في الحديقة المغربية أن تُؤلف بين الجمالية و الوظيفية، على غرار النباتات المعهودة في فناء البيوت و في الحدائق الداخلية و التي يكون جلها من الأشجار المثمرة التي تنجح تحت المناخ المغربي ،كاشجار التفاح و الرمان و الزيتون و الحمضيات بأنواعها و النخيل، فيزهر منها ما يزهر و تهدي لوحاتها الجمالية الظل اللازم في الصيف ، و تلك الأجواء الشاعرية التي تميز كل فصل بخصائصه.
أما عن ما يأتي في كنف ظلال الأشجار، فنجد ما لا يعد و لا يحصى من النباتات المزهرة و العطرة، الطبية منها و الغذائية، التي تزرع في أحواض ترابية على جانبي الممرات، في شبه تلقائية تارة و في تنسيق مبدع تارة أخرى، حسب ذوق سادة المكان.
الماء بين الوظيفية و الرمزية
بالإضافة إلى دوره البديهي في تلطيف الأجواء و الحاجة إليه من أجل ري النباتات، فإن وجود الماء يهدي تلك الأبعاد الحسية الأخرى التي يتوصَل إليها عبر السمع و البصر… فهمس الماء المنبعث من النوافير الجدارية و الأرضية … يزيد و يضعف حسب ساعات اليوم … فيكون قوياً رناناً وقت الفعاليات اليومية للبيوت و هامساً خافتاً وقت القيلولة و أثناء ساعات الليل…..ثم تأتي بعد كل ما ذكر رمزيات الهندسة المائية، كما سوف نحاول التطرق إليها لاحقاً خلال مقالات أخرى، حيث تمثل النوافير الجدارية و السواقي عيون و أنهار الجنات النعيم و ترمز النوافير الأرضية النقاء و الصفاء و التواصل مع السماء …
أصل مياه النوافير في المدن العتيقة هو مما ينبع من العيون التي عادة ما تكون في المرتفعات القريبة … فيوجه عبر شبكات مدروسة و محكمة الصنع … إلى البيوت و من ثم إلى الأوديان و الأنهار.
الممرات و المسارات
هي قاعدة هيكلة الحديقة المغربية و كل فضاءاتها المزروعة. فتكون تارة مماش على شكل محاور تتقاطع في وسط فضاء العرصة أو الحديقة … تبعا للإمكانيات الهندسية لتصميم الفضاء… ثم تأتي المسارات الثانوية التي تؤدي إلى مقاصد معينة كعريش أو جلسة أو قفص كبير للطيور.
أرضيات الزليج
بإتثناء الإرث الموحدي الذي كان معروفا بتوجهه المعماري الرصين والمتقشف، فكانت على سبيل المثال الممرات والمسارات الموروثة من ذلك العصر تحبذ إستعمال الآجر والطين ، بيد أن كل ما سبق أو عقب من عصور إلى وقتنا الراهن له فيض من إستعمالات أنواع الزليج المغربي و رمزياته : كتلك التشكيلات بالزليج الأخضر التي ترمز إلى العشب و البراري و الأخرى الملونة و المزركشة التي ترمز إلى البراري المزهرة … ثم الأخريات الزرقاء و البيضاء التي ترمز إلى رقرقة و بريق مياه الأنهار و الوديان.
العرائش
… هي غالبة ما تكون مصنوعة من خشب الأرز المغربي العطر الأصيل المعروف بهالته من الخصائص الطبيعية.
تستعمل العرائش لتُهْدِيَ الظل المنشود خلال الفصل الحار و لتكون دعما لنمو النباتات المتسلقة المعهودة في الحدائق المغربية، كالياسمين بأنواعه و مسك الليل و العنب بفصائله المختارة …
… لا يمكننا أن نمر على موضوع العرائش دون أن نذكر الدور الذي تلعبه في إحتواء طقوس الشاي اليومي خلال المواسم الجميلة.
البهو و الفناء
غالبا ما تكون وسطه نافورة أرضية تفي بأدوار عدة، أولها الرمزية و المعاني التي سلف ذكرها، ثم تزيين ذلك الفضاء الذي تتباهى فيه ألوان و أنواع مواد التبليط كالرخام و المرمر و الزليج، ثم الوظيفية حيث تستعمل لأغراض الوضوء أو لتنظيف و غسل الأرضيات.
عبرت الحديقة المغربية العصور و تزكت على مرها بنفحات أهل العلم و المهارات المتعددة الوافدة من كل صوب و طرف، لتجسم واحدة من أجمل رموز حوار الحضارات الإنسانية… و ها هي تلتمس اليوم من الأجيال المعاصرة و المستقبلية، الغيرة على هويتها و الحفاظ على رموزها الراقية و على معانيها الدفينة الأزلية.
المصطلحات المتداولة حول الحدائق المغربية :
- أگدال (بالبربرية) = Agdal = البساتين الملكية
- جنان = بستان،
- رياض = بيت أرستقراطي، له حديقة داخلية أو أكثر على النمط الإنطوائي (مسمى من باب المجاملة و العرف اللغوي المحلي)
- عرصة = حديقة،
- جردا = تحويل دارج عامي حديث لكلمة ”Jardin “ بالفرنسية = ”Garden“ بالإنجليزية = حديقة عصرية أو في فضاء عمومي.
- البرطال = أو Al-Burtāl (البرطل أو البرطال) وهو مسمى تعريبي للكلمة اللاتينية بورتال أي “بوابة” و التي كانت تُستخدم في اللغة القشتالية القديمة لتعني “الرواق”. أما في المغرب غالبًا ما نجدها عبارة عن جيب أو جزء من ممر ، مفروشة ومفتوحة على البهو أو الفناء، حيث عادة ما تقام طقوس تحضير الشاي.
يتبع …