أغلى قهوة في العالم…

باريس…بداية يوم رذاذي…خرجت من مكتبي صوب نقطة اللقاء حيث على صديقي علي أن يلتحق بي…

مضت ربع ساعة على وصولي لطاولتي المفضلة في أقصى ركن داخل مقهى سان مالو Saint Malo **، قبالة سينما بارناس، هناك طاولة بكرسيين… من حيث بإمكاني أن أسرح بنظري على أوسع زاوية تغطي إلتقاء زنقتي أوديسا Odessa و دو دِيبار Du Départ……مقاهي باريس رومنسية و جميلة… لكنه يظهر لي أن أهل باريس لهم ذوقهم الخاص في ما يخص القهوة …. هي لا تعجبني بتاتا كما هي حتما لن تعجب كل من نهل من عوالم القهوة الإيطالية الأصيلة، بألوان طقوسها و تنوع طعمها المختار الأصيل….القهوة في باريس غالبا ما تكون رديئة الطعم…لحتى أن كل سكر العالم في كوبي لن يغطي على طعمها المر القطراني !!! و مع كل هذا… لكم هو غريب أن يعجبني العبير الصباحي لهذه القهوة الباريسية…..عبير به مزيج من رائحة البيض المقلي و خبز الباغيت Baguette المقرمش الطازج و الكرواسان الباريسي الشهير.…هي ذي اللوحة الحسية للإفطار التقليدي الباريسي …الذي كان في زمن ما…من طقوسي الصباحية المفضلة.

وصل علي* من الفندق الذي نزل فيه,, و الذي لا يبعد بسوى خمسين متر من مكان لقائنا …ووصل فنجان قهوته….أخذ رشفة و مسح الأجواء بنظراته الفاحصة …..ثم قال لي دون مقدمات ….“ واش كاتعرف آصاحبي أن هذه القهوة اللي كاتشربها هي أغلى قهوة في العالم ؟“…..عبستُ ناظراً إليه بمزيجٍ من الدهشةِ وشيءٍ من السخرية…مُعترضاً : ” يااا صاحبي… رآه معروف لدى “الجميع” ، أنَّ قهوةَ المقاهي الباريسيةِ هي أشبه بسائل قطراني الطعم و اللون، يجمع بين المرارةِ و نكهة بن مفحم…إذا لم يكن (في أفضل حالاته) عديم المذاق .
…القهوة في باريس يا صديقي هي بالأحرى مسألةُ أجواء مرتبطة بالثقافة الشعبية لباريس…و يستحيل شرب هذا السائل الغريب إلّا بإضافاتٍ سخيّةٍ من السكرِ والحليب، ومُرافقتِه بِكرواسونٍ مُقرمشٍ أو خبزٍ بالشوكولاتةِ طازجٍ خرج تواً من الفرن…”
توقّفتُ قليلاً، تاركاً كلماتي تُحدثُ أثرَها…. “قهوةُ المقهى الباريسيِّ التقليدية، باختصار و بكل بساطة… هي غيرُ قابلةٍ للشرب !”

…تابع علي* “مرافعته” وهو يشير إلى الفنجانِ أمامه : “كم تُكلّفُ هذه القهوة؟ أربعةُ يورو؟ خمسةُ يورو؟ لا ياصاحبي أأكّدَ لك أن ثمنُها يتجاوزُ بأكثر من كثيرٍ ما قد تتخيّله.”

…فتوجّهت أفكاري بكل عفوية نحو اعتباراتٍ بدت لي بديهية…هي تتعلق…. بالتجارةِ العادلة، والمحاصيلِ المُنتقاة، وثراءِ الوسطاء و ….السوق بين العرض و الطلب……

إستأنفَ علي حديثه قائلاً: “صاحبي، هذا الفنجان، بالإضافةِ إلى سعره المُعلنِ في هذا المكان، هو في الحقيقة يُمثّلُ لي كلفةَ غُرفتي في الفندق، وتذكرةَ طائرتي، وتداعياتِ العملِ الذي تركتُهُ غيرَ مُنجزٍ في الرباط، والأخطاءِ والإهمالِات الذي قد يرتكبُها فريقي في غيابي…..ولكن هناكَ ما هو أكثرُ من ذلك. لحظةُ القهوةِ هذه….هي تتويجُ حياة من الأحداثٍ التراكميةٍ التي ساهمت، يوماً بعد يوم، وأسبوعاً بعد أسبوع، وشهراً بعد شهر، وعاماً بعد عام…بدرجاتٍ متفاوتة…..في تحقيقِ هذه اللحظةِ بالذات: أن أجلسَ بجوارِكَ هنا، أمامَ هذا الفنجان. ألا تعتقدُ يا صديقي، أنَّ هذا الفنجانَ هو حقاً أغلى فنجان في العالم؟”

استأنفَ علي قائلاً: “في الواقع، هذا الفنجانُ هو الأغلى في العالم في هذه اللحظةِ بالذات…. هو كما قلتُ لك، نتيجةُ أحداثٍ تراكميةٍ عبرَ الزمانِ والمكان….ومع ذلك، سأقولُ لكَ الكلامَ نفسَهُ غداً صباحاً، عندما نجلسُ على الطاولةِ نفسِها، أمامَ القهوةِ التي ستُقدَّمُ لنا. ستكونُ هذه القهوةُ حينها ثمرةَ الأحداثِ التراكميةِ نفسِها التي ذكرتُها للتو، والتي ستُضافُ إليها التجاربُ التي سنعيشُها من هنا إلى الغد، حتى موعدِ هذه القهوةِ الشهيرة.”

اختتمَ علي كلامه قائلاً: “صاحبي ، مفهومُ القهوةِ الأغلى في العالم هو مفهومٌ زمكانيٌّ أكثرَ من أن يكون مادّياً بحتاً. هو يُجسّدُ قيمةَ لحظة، مرتبطةً بظروفٍ استثنائية…..لاحظ أنه ستظلُّ هناكَ دائماً مقاهي تُقدّمُ أغلى قهوةٍ في العالم…..لأنَّها ستكونُ قد وَسمتْ وعياً بقيمةِ التطابقات. فالمسألةُ هي مسألةُ وعيٍ بقيمةِ روحِ الأحداث، وليس بمكوّناتِها المادية….روحُ الأحداثِ هذه…هي تتجاوزُ كلَّ مادية….و القهوة، أو بالأحرى لحظةُ القهوة، تُصبحُ حينها انطباعاً… أو ومضةً…بل إحساساً شبه روحاني….يُضفي عليها كلَّ قيمتِها… تلك المُقدّسة.”…. “لا توجدُ القهوةٌ المثلى الأفضلُ مُطلقاً، لأنَّ الأمر لا يقتصر على أصولِها، ولا على طريقةِ إنتاجِها، ولا حتى على المكانِ أو الفنجانِ الذي تُقدَّمُ فيه…. بل هو يعتمدُ قبلَ كلِّ شيءٍ على الوعيِ بقيمةِ اللحظةِ التي تمتزجُ فيها الرشفةُ بشكلٍ حميم مع الحس,,,, فالوعيِ بعظمة… و بتفرد اللحظة”

———————————————————————————————————

*مقهى سان مالو Saint Malo : لا يزال بنفس المكان …و كما تركته …إلى يومنا هذا.

*علي : شخصية وهمية كان بإمكانها أن تمثل واحدا من أصدقائي.

1707 2560 إدريس السعداني

إدريس السعداني

النسيج البيئي و المحيط اليومي الحاضر، يحددان مسارات الغد !

المقالات بقلم : إدريس السعداني
Verified by MonsterInsights